من يسبق، الرؤية أم المهمة والرسالة؟

علم الإدارة الاستراتيجية بحر لا ساحل له! وهذا وصف يقوله العرب لبعض العلوم التي لا يمكن لك أن تفهمها إلا بالغوص فيها، فهو إذا أردت أن تفهم كلماته الأساسية تجد نفسك مضطرا لتقرأ عدة فصول وعشرات الصفحات، ولعلك تعيدها أكثر من مرة، ومن أكثر من مصدر، ولهذا جماله أحيانا، وعذاباته أحيانا أخرى. وسأتناول اليوم في هذه التدوينة الكلمات المفتاحية في الاستراتيجية، الرؤية والمهمة أوالرسالة (Vision and Mission)، وهما تقريبا أول ما تتعلمه وتمارس تطويره في هذا العلم الإداري، ومع ذلك فهما موضع خلاف بين منظري وممارسي التخطيط الاستراتيجي كما سيأتي في الفقرات القادمة.

وجهة النظر الأولى

في دراستي الجامعية لمادة التخطيط الاستراتيجي، كان التعريف الذي تناولناه للرؤية (Vision) في أكثر من مرجع أكاديمي بعضها يدرس في الجامعات الأمريكية والبعض الآخر في الجامعات الانجليزية هو: (ما الذي تريد المؤسسة أن تكونه) أو (هي حالة مستقبلية منشودة تريد المؤسسة أن تصل إليها وتنظر لها كمصدر للإلهام)، وغالبا ما تكون جملة قصيرة يسهل حفظها، مثل نص الرؤية لإحدى عيادات العيون في أمريكا: (رؤيتنا أن نعتني برؤيتكم)، أو نص الرؤية لجامعة كنغستون في لندن: (تهدف جامعة كينغستون أن تصبح جامعة مجتمع شاملة لا تحدها الإمكانيات الحالية ولكنها تمتلك نظرة أعظم وملهمة لمستقبلها)، وقد كانت رؤية شركة مايكروسوفت في البداية (أن يكون هناك كمبيوتر فوق كل طاولة في كل منزل).

أما المهمة أو الرسالة (Mission) فهي: (ما الذي تريد المؤسسة أن تمارسه لتحقيق أهدافها) أو (تعبير عام عن المهمة أو الأعمال التي تقوم بها المؤسسة)، وغالبا ما تصف المهمة أوالرسالة القيم والأولويات للمؤسسة أيضا، وقد تتكون من عدة عبارات أو جمل، مثل مهمة شركة مايكروسوفت التي تتكون من عدة جمل تبدأ كما يلي:(مهمة مايكروسوفت هي صناعة البرامج للحواسب الشخصية لتمكين وإثراء جميع الناس في عملهم، ومدارسهم، وبيوتهم)، أو مهمة شبكة لينكدإن: (تسهيل التواصل بين المحترفين في العالم لزيادة إنتاجيتهم ونجاحهم)، أو شركة إيكيا: (تقديم مجموعة واسعة من منتجات تأثيث المنزل مصممة تصميما جيدا، وبأسعار منخفضة بحيث تكون في متناول أكبر عدد ممكن من الناس).

الرؤية تجيب على سؤال: ما الذي نطمح إليه، والمهمة تجيب على سؤال: ما الذي سنفعله لتحقيق ذلك

بالطبع تمثل التعريفات السابقة وجهة النظر الأكاديمية للرؤية والمهمة أو الرسالة، وهي سهلة ومنتشرة ومفهومة إلى حد ما، فالرؤية تجيب على سؤال: ما الذي نطمح إليه، والمهمة أو الرسالة تجيب على سؤال: ما الذي سنفعله لتحقيق ذلك، وبالتالي فإن الرؤية تسبق الرسالة بهذا السياق. ولا يقتصر هذا الاستنتاج على الكتب الأكاديمية فقط، فمعهد إدارة المشاريع (PMI) الذي هو مرجعية رئيسية لنا في هذه المدونة التي تعنى بإدارة المشاريع في الأساس، فيعرّف الرسالة أو المهمة: (الطريقة التي تنتهجها المؤسسة لتحقق بها رؤيتها)، وبالتالي فهو يضع الرؤية قبل المهمة والرسالة في هرم التخطيط الاستراتيجي كما يوضح الشكل التالي المنقول من كتاب أساسيات إدراة المحافظ (The standard of portfolio management) الطبعة الثالثة:

Strategy

وجهة النظر الثانية

في كتابيهما المشهور (The Execution Premium: Linking strategy to operations for competitive advantage)، يذكر روبرت كابلان وديفيد نورتون، وهما من أهم المنظرين في علم الاستراتيجية ومبتكري أداة بطاقة الأداء المتوازن – يذكران أن أول خطوة في مرحلة بناء الاستراتيجية في المؤسسات تجيب على سؤال (ما هي الأعمال التي ستمارسها المؤسسة، ولماذا؟)، ولهذا فإن أول ما يقوم المدراء التنفيذيون بتطويره في المؤسسة يجب أن يكون الرسالة (Mission) التي تعرف غاية المؤسسة، ومن ثم تأتي الرؤية (Vision) التي تمثل تطلعها للمستقبل. ويضيف الكاتبان مفهوم القيم (Values) والتي هي المبادئ التوجيهية في المؤسسة كخطوة ثانية بعد تطوير الرسالة وقبل تطوير الرؤية، ولن نتناول ذلك في هذه التدوينة التي تركز على الفرق بين وجهتي النظر في الرؤية والرسالة.

سأنسب وجهة النظر هذه لممارسي الإدارة الاستراتيجية، لتفريقها عن المراجع الأكاديمية التي تتبنى وجهة النظر الأولى، وبالرغم أن تعريف الرسالة والرؤية تكاد تكون متماثلة لدى وجهتي النظر، إلا أن الممارسين للإدارة الاستراتيجية يحرصون على البعد العملي بشكل أوضح، فالرسالة يجب أن توضح الغايات الأساسية التي تعمل عليها المؤسسة في أعمالها مثل رسالة جوجل: (تنظيم معلومات العالم وجعلها مفيدة يسهل الوصول إليها)، أو رسالة وول مارت: (نحن نعطي الناس العاديين الفرصة لابتياع الأمور نفسها التي يبتاعها الأثرياء)، أو شركة سوني:(اختبار فرحة التقدم وتطبيق التكنولوجيا من أجل المصلحة العامة). وعلى الرسالة أن تكون طويلة الأمد، ويمكن فهمها ونشرها بسهولة، ويجب أن توحي بالتغيير الإيجابي داخل  المؤسسة.

أما الرؤية فهي امتداد للرسالة وتعرّف أهداف المؤسسة خلال وقت محدد، ويجب أن تكون قابلة للتنفيذ وغير مبهمة وفي نفس الوقت ملهمة وتخاطب جميع المعنيين بالمؤسسة من موظفين ومدراء وزبائن أيضا. ويضع الكتاب السابق 3 سمات عناصر لنص الرؤية الفاعل:

  1. أن تحتوي على هدف طموح
  2. أن تعرف المؤسسة بما يميزها
  3. أن يكون لها وقت محدد

ومن الأمثلة على ذلك رؤية جامعة ليدز سابقا: (في عام 2015، قدرتنا المميزة على تكامل البحوث عالمية المستوى، والمنح الدراسية، والتعليم، سيمنحنا مكانا بين أعلى 50 جامعة في العالم)،  ورؤية مقهى ستاربكس في مرحلة سابقة (2000 مقهى مع حلول العام 2000)، أو الرؤية المشهورة في عام 1961 للرئيس الأمريكي جون كندي لبرنامج الفضاء الأمريكي: (الهبوط برجل على سطح القمر وإعادته بأمان إلى الأرض قبل نهاية العقد).

  تحتاج المؤسسة إلى تحديد غرضها (رسالتها) قبل أن تتمكن من اختيار وجهتها (الرؤية) 

وكملخص لوجهة النظر الثانية، فإن تعريف الرسالة والرؤية عملي وله عناصر واضحة، ويأتي ضمن خطوات واضحة ومتدرجة لتطوير الاستراتيجية ، وبالامكان التعبير عنه بالرسم التالي:

strategy2.png

الخاتمة

أعتقد أن الأهم من اتخاذ رأي محدد بين وجهتي النظر السابقتين هو معرفة أهمية تطويرالاستراتيجية للمؤسسات وللأفراد، ونصيحتي أن يتم استخدام كل من وجهتي النظر في سياقها إن صح التعبير، ولكن لي نصيحة أخرى أيضا: هل لاحظتم أنني كنت دائما أكتب (الرسالة أو المهمة) مع أن اللفظ الدارج لها هو (الرسالة)؟ إن الترجمة الانجليزية لكلمة (Mission) قد تكون الرسالة وقد تكون المهمة، ولكن هل الرسالة والمهمة بمعنى واحد في العربية؟ الجواب هو حتما لا، وإن كان بينهما شيء من الشبه. وربما تكون اللغة العربية قد حلت الإشكالية المذكورة في هذه التدوينة بطريقة غير مباشرة، فإذا ترجمت كلمة (Mission) إلى (المهمة) فسأتفق معك أن (الرؤية) تسبق (المهمة)، أما لو ترجمت الكلمة نفسها إلى (الرسالة) فستجد من المنطق أن (الرسالة) تسبق (الرؤية). وأرجو أن تعيد قراءة الأمثلة أعلاه مع هذا التفريق وتخبرني إذا اتفقت معي فيما ما ذهبت إليه. بالطبع لا يعني ذلك أبدا أن هناك حقا ثلاث مصطلحات (رسالة، رؤية، ومهمة) بدلا من اثنتين، وإنما هو اقتراح لمن أراد الحديث بالعربية أن يستخدم لفظ المهمة للإشارة لمعناها الأكاديمي الذي يجعلها، كما يتوقعها الكثيرون، بعد الرؤية، ولفظ الرسالة إذا كان يعتبرها أول ما تقوم المؤسسة بتعريفه عن نفسها.

Leave a comment